فصل: تفسير الآيات (13- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النكت والعيون المشهور بـ «تفسير الماوردي»



.تفسير الآيات (13- 16):

{أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)}
قوله عز وجل: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} فيها ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها الخيانة، قاله قتادة.
والثاني: أنهم البطانة، قاله قطرب ومقاتل، ومنه قول الشاعر:
وجعلت قومك دون ذاك وليجة ** ساقوا إليك الخير غير مشوب

والثالث: أنه الدخول في ولاية المشركين، من قولهم ولج فلان في كذا إذا دخل فيه قال طرفة بن العبد:
رأيت القوافي يتلجن موالجاً ** تضايق عنها أن تولجها الإبر

.تفسير الآيات (17- 18):

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}
قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ} يعني المسجد الحرام. وفيه وجهان:
أحدهما: ما كان لهم أن يعمروها بالكفر لأن مساجد الله تعالى تعمر بالإيمان.
والثاني: ما كان لهم أن يعمروه بالزيارة له والدخول إليه.
{شَاهِدِينَ عَلَى أنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أن فيما يقولونه أو يفعلونه دليل على كفرهم كما يدل عليه إقرارهم، فكأن ذلك منهم هو شهادتهم على أنفسهم، قاله الحسن.
والثاني: يعني شاهدين على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفر لأنهم كذبوه وأكفروه وهو من أنفسهم، قاله الكلبي.
والثالث: أن النصراني إذا سئل ما أنت؟ قال: نصراني، واليهودي إذا سئل قال: يهودي، وعابد الوثن يقول: مشرك، وكان هؤلاء كفار وإن لم يقروا بالكفر، قاله السدي.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} في هذه المساجد قولان:
أحدهما: أنها مواضع السجود من المصلى، فعلى هذا عمارتها تحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: بالمحافظة على إقامة الصلاة.
والثاني: بترك الرياء.
والثالث: بالخشوع والإعراض عما ينهى.
والقول الثاني: أنها بيوت الله تعالى المتخذة لإقامة الصلوات، فعلى هذا عمارتها تحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: إنما يعمرها بالإيمان من آمن بالله تعالى.
والثاني: إنما يعمرها بالزيارة لها والصلاة فيها من آمن بالله تعالى.
والثالث: إنما يرغب في عمارة بنائها من آمن بالله تعالى.
{وَالْيَوْمِ الأَخِرِ وَأَقَامَ الْصَّلاَةَ وَءَاتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِن الْمُهْتَدِينَ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه قال ذلك لهم تحذيراً من فعل ما يخالف هدايتهم.
والثاني: أن كل {عَسَى} من الله واجبة وإن كانت من غيره ترجياً، قاله ابن عباس والسدي.

.تفسير الآيات (19- 22):

{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)}
قوله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يعني بعمارته السدانة والقيام به.
{كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الأخِر وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ} لأن قريشاً فضلت ذلك على الإيمان بالله، فرد الله تعالى عليهم وأعلمهم أنهما لا يستويان، وأن ذلك مع الكفر محبط.
وحكى مقاتل أن هذا الآية نزلت في العباس بن عبد المطلب، وهو صاحب السقاية، وفي شيبة بن عثمان وهو صاحب السدانة وحاجب الكعبة أُسرا يوم بدر فعيرا بالمقام على الكفر بمكة وأغلظ لهما المهاجرون، فقالا نحن أفضل منكم أجراً نعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج فنزل هذا فيهم.

.تفسير الآيات (23- 24):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)}
قوله عز وجل: {قُلْ إِن كَانَ ءَآبَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} يعني اكتسبتموها.
{وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} فيها وجهان:
أحدهما: أنها أموال التجارات إذا نقص سعرها وكسد سوقها.
والثاني: أنهن البنات الأيامى إذا كسدن عند آبائهن ولم يخطبن. {وَمَسَاكِنَ تَرْضَونَهَا} وهذا نزل في قوم أسلموا بمكة فأقاموا بها ولم يهاجروا إِشفاقاً على فراق ما ذكره الله تعالى ميلاً إليه وحبّاً له فذمهم الله تعالى على ذلك وقال: {فَتَربَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه فتح مكة، قاله مجاهد.
والثاني: حتى يأتي الله بأمره من عقوبة عاجلة أو آجلة، قاله الحسن.

.تفسير الآيات (25- 27):

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)}
قوله عز وجل: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية، وفي السكينة ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها الرحمة، قاله علي بن عيسى.
والثاني: أنها الأمن والطمأنينة.
والثالث: أنها الوقار، قاله الحسن.
{وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} فيه وجهان:
أحدهما: الملائكة.
والثاني: أنه تكثيرهم في أعين أعدائهم، وهو محتمل.
{وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فيه وجهان:
أحدهما: بالخوف والحذر.
والثاني: بالقتل والسبي.

.تفسير الآيات (28- 29):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}
قوله عز وجل: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخرِ} فإن قيل: فأهل الكتاب قد آمنوا بالله واليوم الآخر فكيف قال ذلك فيهم،؟
ففيه جوابان:
أحدهما: أن إقرارهم باليوم الآخر يوجب الإقرار بجميع حقوقه، فكانوا بترك الإقرار بحقوقه كمن لا يقرّ به.
والثاني: أنه ذمّهم ذم من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر للكفر بنعمته، وهم في الذم بالكفر كغيرهم.
{وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه ما أمر الله سبحانه وتعالى بنسخه من شرائعهم.
والثاني: ما أحله لهم وحرمه عليهم.
{وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ} والحق هنا هو الله تعالى، وفي المراد بدينه في هذا الموضع وجهان:
أحدهما: العمل بما في التوراة من اتباع الرسول، قاله الكلبي.
والثاني: الدخول في دين الإسلام لأنه ناسخ لما سواه من الأديان، وهو قول الجمهور.
{مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} فيه وجهان:
أحدهما: يعني من آباء الذين أوتوا الكتاب.
الثاني: من الذين أوتوا الكتاب بين أظهرهم لأنه في اتباعه كآبائهم.
{حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ} فيه تأويلان:
أحدهما: حتى يضمنوا الجزية وهو قول الشافعي لأنه يرى أن الجزية تجب انقضاء الحول وتؤخذ معه.
والثاني: حتى يدفعوا الجزية.
وفي الجزية وجهان:
أحدهما: أنها من الأسماء المجملة لا يوفق على علمها إلا بالبيان.
والثاني: أنها من الأسماء العامة التي يجب إجراؤها على عمومها إلا ما خص بالدليل.
ثم قال تعالى: {عَن يَدٍ} وفيه أربعة تأويلات:
أحدها: عن غنى وقدرة.
والثاني: أنها من عطاء لا يقابله جزاء، قاله أبو عبيدة.
والثالث: أن يروا أن لنا في أخذها منهم يداً عليهم بحقن دمائهم بها.
والرابع: يؤدونها بأيديهم ولا ينفذونها مع رسلهم كما يفعله المتكبرون.
{وَهُمْ صَاغِرُونَ} فيه خمسة أقاويل:
أحدها: أن يكونوا قياماً والآخذ لها جالساً، قاله عكرمة.
والثاني: أن يمشوا بها وهم كارهون، قاله ابن عباس.
والثالث: أن يكونوا أذلاء مقهورين، قاله الطبري.
والرابع: أن دفعها هو الصَّغار بعينه.
والخامس: أن الصغار أن تجري عليهم أحكام الإسلام، قاله الشافعي.

.تفسير الآيات (30- 31):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}
قوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيرٌ ابْنُ اللَّهِ} الآية. أما قول اليهود ذلك فسببه أن بختنصر لما أخرب بيت المقدس أحرق التوراة حتى لم يبق بأيديهم شيء منها، ولم يكونوا يحفظونها بقلوبهم، فحزنوا لفقدها وسألوا الله تعالى ردها عليهم، فقذفها الله في قلب عزير، فحفظها وقرأها عليهم فعرفوها فلأجل ذلك قالوا إنه ابن الله.
واختلف فيمن قال ذلك على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن ذلك كان قول جميعهم، وهو مروي عن ابن عباس.
والثاني: أنه قول طائفة من سلفهم.
والثالث: أنه قول جماعة ممن كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلف فيهم على قولين:
أحدهما: أنه فنحاص وحده، ذكر ذلك عبيد بن عمير وابن جريج.
والثاني: أنهم جماعة وهم سلام ابن مشكم ونعمان بن أبي أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف، وهذا مروي عن ابن عباس.
فإن قيل: فإذا كان ذلك قول بعضهم فلم أضيف إلى جميعهم؟
قيل: لأن من لم يقله عند نزول القرآن لم ينكره، فلذلك أضيف إليهم إضافة جمع وإن تلفظ به بعضهم.
{وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} وهذا قول جميعهم، واختلف في سبب قولهم لذلك على قولين:
أحدهما: أنه لما خلق من غير ذكر من البشر قالوا إنه ابن الله، تعالى الله عن ذلك.
الثاني: أنهم قالوا ذلك لأجل من أحياه من الموتى وأبرأه من المرضى.
{ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْواهِهِمْ} معنى ذلك: وإن كانت الأقوال كلها من الأفواه: أنه لا يقترن به دليل ولا يعضده برهان، فصار قولاً لا يتجاوز الفم فلذلك خص به.
{يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ من قبلُ} أي يشابهون، مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء إذا لم تحض تشبيهاً بالرجال ومنه ما جاء في الحديث: «أَجرَأُ النَّاسِ عَلى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ يُضَاهِئُونَ خَلْقَهُ» أي يشبهون به.
وفيهم ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن قولهم ذلك يضاهي قول عبدة الأوثان في اللات والعزى ومناة وأن الملائكة بنات الله، قاله ابن عباس وقتادة.
والثاني: أن قول النصارى المسيح ابن الله يضاهي قول اليهود عزير ابن الله، قاله الطبري.
والثالث: أنهم في تقليد أسلافهم يضاهون قول من تقدمهم، قاله الزجاج.
{قَاتََلَهُمُ اللَّهُ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: معناه لعنهم الله، قاله ابن عباس ومنه قول عبيد بن الأبرص:
قاتلها الله تلحاني وقد علمت ** أني لنفسي إفسادي وإصلاحي

والثاني: معناه قتلهم الله، قاله بعض أهل العربية.
والثالث: أن الله تعالى فيما أعده لعذابهم وبينه من عداوتهم التي هي في مقابلة عصيانهم وكفرهم كأنه مقاتل لهم.
{أَنَّى يُؤْفَكُونَ} معناه كيف يُصرفون عن الحق إلى الإفك وهو الكذب.
قوله عز وجل: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} أما الأحبار منهم العلماء، واحدهم حَبْر سمي بذلك لأنه يحبر المعاني أي يحسنها بالبيان عنها.
وأما الرهبان فجمع راهب، مأخوذ من رهبة الله تعالى وخشيته، غير أنه صار بكثرة الاستعمال يتناول نُسّاك النصارى.
وقوله {أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} يعني آلهة لقبولهم منهم تحريم ما يحرمونه عليهم وتحليل ما يحلونه لهم، فلذلك صاروا لهم كالأرباب وإن لم يقولوا إنهم أرباب، وقد روي مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.